حيفا في الذاكرة الشفويّة: أحياء وبيوت وناس | فصل

«حيفا في الذاكرة الشفويّة: أحياء وبيوت وناس» | «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»

 

صدر عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»، ضمن سلسلة «ذاكرة فلسطين»، كتاب الباحثة الفلسطينيّة روضة غنايم «حيفا في الذاكرة الشفويّة: أحياء وبيوت وناس» (2022).

يتتبّع الكتابة تاريخ خمسة أحياء في مدينة حيفا، هي العتيقة، والكولونيّة الألمانيّة، وعبّاس، ووادي النسناس، ووادي الصليب، من خلال روايات ذاتيّة لأفراد سكنوا الأحياء الخمسة، يسردون تاريخ عائلاتهم وتفاصيل حياتهم اليوميّة. تجمع هذه المرويّات سير الناس وسيرة المدينة وفلسطين بشكل عامّ، إضافة إلى صور من ألبوماتهم الشخصيّة تتعقّب تاريخ المدينة والتطوّرات الّتي طرأت عليها، وما شهدته من أحداث منذ نهاية الفترة العثمانيّة حتّى الوقت الحاضر.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بإذن من الكاتبة.

 


 

التاريخ الشفويّ وكتابة التاريخ

التاريخ الشفويّ يكشف ما لا تغطّيه أو تقوله الأرشيفات، هو جمع المعلومات التاريخيّة حول الأفراد، أو العائلات، أو الأحداث المهمّة، أو الحياة اليوميّة ودراستها، باستخدام أشرطة صوتيّة أو أشرطة فيديو، أو من خلال مقابلات شخصيّة. يعتمد التاريخ الشفويّ على سرديّات الناس وذكرياتهم ومذكّراتهم وخبراتهم عن تاريخهم وتاريخ بلدهم ودولتهم، والمنعطفات والتحوّلات الكبرى الّتي يمرّون بها. من خلال السرديّات الشفويّة الذاتيّة نستطيع أن نفهم حياة الناس وتجاربهم وتاريخهم في الماضي والحاضر، وأن نتعلّم عنها. فهذه السرديّات تُعرف في علم التاريخ بـ ’ميكروستوريا‘ بمعنى ’التاريخ الجزئيّ‘؛ ذلك لأنّ تلك السرديّات تتعلّق بتفاصيل حياتيّة وجدانيّة ذاتيّة للفرد، منها العائلة، والأصدقاء، والشارع، والحارة، وما إلى ذلك، من خلال سرد تجاربهم الّتي لم يحتضنها التاريخ الشامل؛ فالسرديّة الشفويّة تُعتبر مصدرًا غير تقليديّ.

 تساهم هذه السرديّات في ملء الفراغات، وتستكمل الحلقات الناقصة في التأريخ التقليديّ، وهو التاريخ المكتوب الّذي يُعرَف في علم التاريخ ’ماكروستوريا‘ الّذي يعتمد على سرد الحوادث بحسب تسلسل زمنيّ تقليديّ؛ فهو بالأصل تقويم وتحقيب. والتحقيب مشتقّ من الحقبة، وهي وحدة زمنيّة تتراوح بين حدّين ملحوظين لظاهرة معيّنة، يمثّلان بداية ونهاية لها.

تعتبر السرديّات الشفويّة مصدرًا مهمًّا لفهم التاريخ وتحليل مجرياته، وتُعَدّ مصدرًا حيويًّا لكتابة التاريخ الشامل، الّذي يتعامل مع المجتمع ككلّ، بصرف النظر عن تفاصيل الفرد الحياتيّة...

تُعتبر السرديّات الشفويّة مصدرًا مهمًّا لفهم التاريخ وتحليل مجرياته، وتُعَدّ مصدرًا حيويًّا لكتابة التاريخ الشامل، الّذي يتعامل مع المجتمع ككلّ، بصرف النظر عن تفاصيل الفرد الحياتيّة؛ فهو يتعامل مع وجود الشعب بأكمله بذاكرته وهويّته. أمّا السرديّات الذاتيّة، فتُجسّد الأحداث بطريقة تاريخيّة معيشيّة بحسّ مرهف مؤنسن، فمن خلالها نتعرّف مراحل زمنيّة وتجارب من عيون أصحابها وأفواههم. فضلًا على أنّ هذه السرديّات تضيف إلى كتابة التاريخ أبعادًا إنسانيّة خاصّة؛ فالساردون يسردون أحداثًا عاشوها، أو أحداثًا قد سمعوها من آخرين عايشوها؛ فالتفصيلات الصغيرة والكبيرة الّتي يمدّنا بها الساردون تساعدنا في قراءة المُستتِر، وكشف المُغيَّب من التاريخ. إذا لم تُروَ هذه السرديّات، فستُنسى وتُغيَّب عن المشهد التاريخيّ؛ فالتاريخ الشفويّ يُكمل التأريخ المكتوب، والدمج بين السرديّة الشفويّة والتأريخ المكتوب يخلق توازنًا.

تطرّق المؤرّخ الإسرائيليّ إيلان بابِه إلى هذا في كتابه «التطهير العرقيّ في فلسطين»، فيقول إنّ عددًا كبيرًا من المؤرّخين الإسرائيليّين الجدد نجحوا في الكتابة عن موضوع تهجير العرب الفلسطينيّين في عام 1948، باستخدام وثائق من الأرشيفات العسكريّة الإسرائيليّة، منهم مثلًا المؤرّخ بيني موريس، فسجّلوا صورة جزئيّة لما جرى في الواقع؛ لأنّ الكتابة عن الأحداث كانت من دون تمحيص في الوثائق العسكريّة الّتي اعتُبرت الحقيقة المطلقة؛ فيؤكّد بابِه أنّه لو التفت هؤلاء المؤرّخون إلى التاريخ الشفويّ، لاستطاعوا تقديم وصف أصدق لما جرى في عام 1948؛ من طرد جماعيّ ومجازر نُفّذت بحقّ الشعب الفلسطينيّ؛ فالدراسة التاريخيّة لتاريخ فلسطين، خاصّة نكبة عام 1948، تحتاج عند الكتابة عنها إلى الربط بين التاريخ والذاكرة، والموضوعيّ والذاتيّ؛ لبناء تصوّر أشمل عن الأحداث الّتي جرت وقتئذٍ.

 

أنواع السرديّات الشفويّة

هنا، يجب الانتباه إلى المرويّات الشفويّة الجبريّة، والمرويّات الشفويّة المتّفق عليها مع الراوي، وأن نميّز بين ’القول‘، و’الحديث‘، وسرد ’قصّة‘ ما. على سبيل المثال، عندما يروي مهاجر طالب العمل في دولة غير دولته قصّته للقاضي لكي يُقبل لجوؤه، ليس بالضرورة أن تكون القصّة ’حقيقيّة‘؛ فربّما نسج اللاجئ قصّة من خياله، أو بالغ في بعض الأمور كي يُقبل طلبه، في ظروف ضاغطة يمكن أن يكون قد تعرّض إليها طالب لجوء إلى دولة ما؛ بهدف الحصول على حماية لم توفّرها له دولته. إنّ مشقّة الرحلة غير القانونيّة الّتي قام بها للوصول إلى وجهته، ووسيلة وصوله والمخاطرة فيها، والتهريب، والعطش، والتعذيب الّذي سبق الرحلة، كلّ ذلك يخلق تشويشًا في الذكريات، فتكون سرديّات يختلط فيها الواقعيّ والمتخيّل والمزيّف. وهنا يجب الحذر المسبق في تلقّي حيثيّات القصّة، وهو ما يُعرف بــ ’السرديّات الجبريّة‘.

من الأمثلة على النوع الثاني من السرديّات - السرديّات المتّفق عليها مع الرواة، دراسة لأستاذ اللسانيّات الاجتماعيّة، الدكتور نادر سراج، وهي قراءة لكتابه «أفندي الغلغول 1940-1854: شاهد على تحوّلات بيروت خلال قرن: بيروت العثمانيّة سيرة الأمكنة والعائلات والحلّ والترحال»؛ إذ ورد في خاتمة الدراسة البحثيّة: "يتبيّن لنا من خلال اعتماد نمط الرواية الشفويّة الّتي نسمعها ونوظّفها في نصوصنا، وتحديدًا في أبحاث اللسانيّة أو الأنثروبولوجيّة، أنّ المرويّات الشفويّة الّتي تُلتقط من أفواه قائليها بلغة عفويّة، لا تعمُّد ولا تكلّف فيها، حَرِيّة بالدرس والاعتناء، ويمكن الوثوق بها والبناء عليها، بعد تمحيصها ونخل معطياتها والتدقيق في مضامينها".

في الكتاب المُراجَع في دراسته المذكورة، يوثّق سراج حيوات أبناء أسرة بيروتيّة ممتدّة إلى تراث عائليّ منسيّ، من مدوّنات نادرة، ومراسلات، وصور، ووثائق أحوال شخصيّة، وبطاقات رسميّة، وجوازات سفر، وشهادات مدرسيّة وجامعيّة، ومرويّات شفويّة، ومراجع عثمانيّة وتاريخيّة مكتوبة. عليه؛ فإنّ كلّ هذه الآليّات كُتبت بأسلوب سلس ومأنوس؛ إذ نقلت سيرة حياة العائلة من تاريخها الضيّق والمحدود بشخص هاشم الجمّال (الشخصيّة المحوريّة)، متوسّعة إلى سيرة بيروت طيلة قرن كامل من تاريخها. هذه هي نوعيّة كتابة التاريخ الشفويّ الّتي اعتمدتُها في السرديّات الّتي جمعتها من الرواة في كتابي «حيفا في الذاكرة الشفويّة: أحياء وبيوت وناس»؛ أي نقل إليّ الرواة رواياتهم الذاتيّة، ثمّ توسّعوا إلى رواية مدينة حيفا، وفلسطين.

تُعتبر الرواية الشعبيّة نوعًا من أنواع التعبير الشفويّ؛ إذ تسرد سلسلة من الأحداث المتخيَّلة، وتفترض وجود راوٍ يقصّ تلك الأحداث؛ فالحكاية تنتمي إلى الأدب السرديّ، وإلى عالم الخيال والمتخيّل...

ثمّة دراسة للباحثة نهى خلف عن المكروستوريا، تدرس فيها سيرة الصحافيّ الفلسطينيّ عيسى العيسى (1950-1878)، ومذكّراته بعنوان «ذكريات من الماضي»، تبحث فيها مسيرته وآراءه وكتاباته من خلال مقالاته المنشورة في صحيفة «فلسطين» الّتي أسّسها في مدينة يافا في عام 1911؛ لتكوّن فكرة شموليّة عن مرحلة معيّنة عن تاريخ فلسطين والنكبة. في هذه المذكّرات تفصيلات عديدة مهمّة، كان يمكن التاريخ أن يتغاضى عنها لو أنّ عيسى العيسى لم يكتبها؛ فمذكّراته تلك شهادة حيّة عن مرحلة محدّدة من حياته؛ إذ عايش فترة نهاية الحكم العثمانيّ، ونهاية حكم الانتداب البريطانيّ على فلسطين وبلاد الشام.  

ثمّة نوع آخر في كتابة التاريخ الشفويّ، تلك الّتي تُكتب من خلال جولات تسجيليّة يقوم بها المؤرّخ الشفويّ، أو الباحث، في هذا الحقل، لكتابة الأحاديث وربطها بالمكتوب. نرى في دراسة المؤرّخ عبد الله حنّا بعنوان «تجربتي مع الرواية الشفويّة لكتابة تاريخ الفلّاحين في سورية القرن العشرين»، كيف نجح في كتابة الرواية من أفواه الفلّاحين، وكشف وقائع مطموسة لم يتطرّق إليها التاريخ المكتوب عن ظهور طبقة ملّاك الأرض الإقطاعيّين، وتهجير الفلّاحين من أراضيهم، ومقاومتهم العفويّة والمنظّمة ضدّ تشغيلهم بالسخرة وتهجيرهم، وربطها بالتاريخ المكتوب؛ فالرواية الذاتيّة لها أهمّيّة بالغة؛ إذ يتوسّع نطاقها الذاتيّ إلى العامّ، مكوِّنًا نبضًا وصورة كبيرة عامّة. يؤكّد ذلك ضرورة جمع الروايات الشفويّة، وتمحيصها لتصبح مصدرًا موثوقًا للكتابة التاريخيّة.

هناك نوع آخر يشمله هذا النوع من الكتابة التاريخيّة، هو الرواية الشعبيّة أو الحكاية الشعبيّة، ودمجها مع التاريخ المكتوب. تُعتبر الرواية الشعبيّة نوعًا من أنواع التعبير الشفويّ؛ إذ تسرد سلسلة من الأحداث المتخيَّلة، وتفترض وجود راوٍ يقصّ تلك الأحداث؛ فالحكاية تنتمي إلى الأدب السرديّ، وإلى عالم الخيال والمتخيّل، وتتميّز أحداثها بحيويّة خاصّة. كما أنّ الحدث فيها مختلَق، إلّا أنّه مرويّ بوضوح ويمكن فهمه بسهولة. ثمّة حكايات تتضمّن شخصيّات وأحداثًا تاريخيّة حقيقيّة في الحكاية الشعبيّة، وتُنقَل شفويًّا، مدّة طويلة، وقد تُدوَّن في مرحلة لاحقة.

تتحدّد في الإطار الشفاهيّ أصالة العمل الحكائيّ من أسلوب تفاعل الراوي مع المستمعين. يمارس النقل الشفويّ للحكايات نوعًا من الانتخاب؛ حتّى لا يبقى في السرد الشفويّ إلّا الحكايات المهمّة والمبنيّة جيّدًا؛ أي لا يمكن حذف أيّة مرحلة من مراحلها. ولأنّ هذه الحكايات شفويّة؛ فقد أخذت قالبًا محدّدًا يصنّفها في نماذج، وذلك هو أسلوب عمل الباحثين في الفلكلور. يقول المختصّ في العلاقة بين التاريخ والفلكلور، أستاذ التاريخ عمرو عبد العزيز منير، إنّ الأدب الشعبيّ سجّل معارك العرب في سيرة عنترة بن شدّاد، ومعارك الفرس في سيرة حمزة البهلوان، ومعارك الصليبيّين في سيرة الظاهر بيبرس، وغيرهم. كما أنّ هناك روايات الصحابة وتاريخ جهاد الفتح الإسلاميّ. ويقول إنّ الخيال الشعبيّ في هذه الحكايات الشعبيّة امتزج بالحقائق، وإنّ المحكيّ الشعبيّ يُحكى على مسامع الجمهور، فلم يكن مكتوبًا لجمهور القرّاء لسبب بسيط، وهو أنّ ذلك العصر كان عصر الرواية الشفويّة؛ لأنّ الطباعة لمّا تكن قد اختُرعت بعد. وقد ألقى الأستاذ عبد العزيز منير الضوء في دراسته عن الحكاية الشعبيّة على الثغرات الّتي لم يذكرها التاريخ الكبير؛ إذ عكست رؤية الوجدان الشعبيّ الجماعيّ لصورة الآخر من المنظور الدينيّ.

ثمّة حقل آخر في كتابة التاريخ الشفويّ، وهو التاريخ المطموس؛ أي التاريخ ’المسكوت عنه‘ والمُغيَّب عن الوجود التاريخيّ؛ إذ يُتعمّد حجبه وتشويشه ومحوه، إضافة إلى مصادرته جزئيًّا أو كلّيًّا، والعبث بنصوصه، مدوّنة كانت أو شفويّة. هناك دراسة للمؤرّخة محاسن عبد الجليل تطرّقت فيها إلى ثلاث حالات من الطمس: الحالة الأولى هي تاريخ الرقّ وعلاقة ما بعد الرقّ؛ أي الأحفاد، بتاريخ أجدادهم، وكيفيّة محو شواهد هذا التاريخ وقبرها. الحالة الثانية هي المرض العضويّ، كالجدريّ على سبيل المثال، أو الجنون، وكيف يساهم المجتمع في محو الشاهد وإخفائه، في حضور نوع من التنكّر أو الخجل من طرق هذا الباب. والحالة الثالثة هي تاريخ الّذين يحتمون بالأضرحة والمراكز الصوفيّة من النسوة والرجال المُبعدين، المغضوب عليهم؛ فيكون ’التابو‘ هو سيّد الموقف في هذا التاريخ.

 

نشأة التاريخ الشفويّ

نشأ التوثيق والتأريخ الشفويّ منذ زمن بعيد يعود إلى ما قبل الإسلام بأجيال، شأنه شأن جميع الحضارات الأخرى في العالم. الباحث والمؤرّخ وجيه كوثراني يقول في كتابه «تاريخ التأريخ» إنّ الرواية التاريخيّة عرفتها جميع الحضارات الإنسانيّة بأشكال وصيغ مختلفة. يقول إنّ الفكر البشريّ قد توصّل، بعد تطوّر طويل في طرائق التفكير، إلى وعي مناسب للتمييز بين ما هو أسطوريّ - خياليّ، وما هو تاريخيّ - واقعيّ. يذكر أنّ المعرفة التاريخيّة سُمّيت في الحضارة الغربيّة بالـ ’هيستوريوغرافيا‘؛ أي ’كتابة التاريخ‘، وفي الحضارة العربيّة – الإسلاميّة، عُرفت بتدوين الأخبار. يذكر كوثراني أنّ جهودًا كبيرة بُذلت، من القرن الخامس عشر قبل الميلاد حتّى اليوم، في نقد المعارف التاريخيّة وضبطها وغربلتها، واستخلاص ما يُعتقد أنّه صحيح فيها. في هذه المسارات نشأ علم التاريخ؛ باعتباره تتويجًا لجهود البحث والتفكير والتطبيق.

المعرفة التاريخيّة سُمّيت في الحضارة الغربيّة بالـ ’هيستوريوغرافيا‘؛ أي ’كتابة التاريخ‘، وفي الحضارة العربيّة – الإسلاميّة، عُرفت بتدوين الأخبار...

من أبرز مؤرّخي القرن الخامس قبل الميلاد، المؤرّخ والمفكّر والرحّالة اليونانيّ هيرودوت (425-484 ق. م)، الّذي أُطلق عليه اللقب ’أبو التاريخ‘، الذّي استند في كتابه «التاريخ» أو «تاريخ هيرودوت» إلى ما رآه بأمّ عينه، وشهادات الناس من خلال الرحلات. أمّا نشأة ’علم التاريخ‘ عند العرب فبدأت شفويّة عبر الرواية المتناقَلة والإسناد المتواتر أو المنقطع؛ فالشهادة الشفويّة بقيت مصدرًا مهمًّا وأساسيًّا للخبر التاريخيّ منذ أبي العبّاس اليعقوبيّ، وأبي الحسن المسعوديّ الّذي جمع معلوماته عن طريق الاستماع والمقابلات مع الناس، عبر زياراته بلادًا واطّلاعه على ثقافات خلال رحلاته الواسعة، وكذلك عبد الرحمن الجبرتيّ. من أبرز المؤرّخين المسلمين الّذين اعتمدوا السرديّة الشفويّة، أبو جعفر الطبريّ، الّذي اعتمدها إلى جانب المصادر المكتوبة، وكذلك المؤرّخ وعالم الاجتماع ابن خلدون الّذي رأى أنّ مفهوم التاريخ يمثّل سجلًّا للماضي لفهم الحاضر.

أمّا التاريخ الشفويّ الحديث، فمن روّاده المؤرّخ رونالد غريلي، وهو مؤسّس «وحدة تعليم التاريخ الشفويّ» في «جامعة كولومبيا» في مدينة نيويورك، في عام 1971، وهي أوّل جامعة في العالم تنشئ قسمًا خاصًّا للتاريخ الشفويّ. شرع غريلي في إجراء مقابلات شفويّة في عام 1965، وكتب، استنادًا إلى هذه السرديّات، تاريخ الأمريكيّين العاديّين. أمّا المؤرّخ لورانس غودوين، فأسّس «برنامج التاريخ الشفويّ» في «جامعة ديوك» في مدينة كارولاينا الشماليّة في الولايات المتّحدة، وكتب تلاميذ غودوين عن تاريخ حركة حقوق المواطن استنادًا إلى شهادات شفويّة.

ثمّة مبادرة أخرى مهمّة في مضمار التاريخ الشفويّ، تتمثّل في مشروع «ساديت»، وهو مشروع في جنوب أفريقيا في التربية للديمقراطيّة، أسّسه رئيس جنوب أفريقيا ثابو مبيكي في عام 1999. هدف المشروع إلى دراسة فترة ما بين عامَي 1960 و1994، بواسطة مقابلات أُجريت مع مواطنين أفريقيّين عاديّين، في شأن نضالهم وتجربتهم في التحرّر من نظام الفصل العنصريّ ’الأبارتايد‘ الّذي حكمت من خلاله الأقلّيّة البيضاء في جنوب أفريقيا منذ عام 1948، حتّى إلغاء النظام في الفترة ما بين عامَي 1990 و1994.

بالعودة إلى المؤرّخَين الفلسطينيّين اللّذين سبقت كتابتهما ولادة التاريخ الشفويّ الأمريكيّ، يُلاحظ أنّ قرى فلسطين ومدنها في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، كانت تستقبل الزائرين من باحثين ومؤرّخين يقومون بلقاءات وأحاديث مطوّلة مع الأهالي؛ من فلّاحين وبدو وسكّان مدن وزائرين، يستقبلونهم بكلّ ترحاب؛ إذ ما كان يبتغيه هذا الزائر هو أن يحدّثه الأهالي عن شؤون الحياة والمعيشة والتاريخ والعادات والتقاليد في قريتهم ومحيطهم. أمّا المؤرّخان فالأوّل هو المؤرّخ الفلسطينيّ عارف العارف، مؤلّف كتاب «النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود»، الّذي يُعتبر من أهمّ المراجع العربيّة عن النكبة، وهو عبارة عن ستّة أجزاء. أمّا الثاني فهو المؤرّخ الفلسطينيّ مصطفى مراد الدبّاغ، مؤلّف موسوعة «بلادنا فلسطين». وكلاهما أصبح لاحقًا يُعَدّ من كبار الرعيل الأوّل من المؤرّخين.

 


 

روضة غنايم

 

 

 

باحثة فلسطينيّة من حيفا، تعمل محاضِرة ومدرّبة في موضوعات التاريخ الشفويّ والتاريخ الاجتماعيّ الحيفاويّ ومذكّرات الناس.